الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآيات (7- 8): {وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)}قوله تعالى: {وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ}. فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَقالُوا} ذكر شيئا آخر من مطاعنهم. والضمير في {قالُوا} لقريش، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلس مشهور، وقد تقدم في {سبحان}. ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره. مضمنة- أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد! إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق! فعيروه بأكل الطعام، لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا، وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الاكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك، فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ} فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها.الثانية: دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش. وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق. وفى البخاري في صفته عليه السلام: «ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق». وقد تقدم في الأعراف. وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح. وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين، كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، خرجه البخاري. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة إن شاء الله. قوله تعالى: {لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} أي هلا. {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} جواب الاستفهام. {أَوْ يُلْقى} في موضع رفع، والمعنى: أو هلا يلقى {إِلَيْهِ كَنْزٌ} {أَوْ} هلا {تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها} {يَأْكُلُ} بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدم ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده فأن يعود الضمير عليه أبين، ذكره النحاس. {وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً} تقدم في سبحان والقائل عبد الله بن الزبعرى فيما ذكره الماوردي..تفسير الآيات (9- 10): {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)}قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ} أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك. {فَضَلُّوا} عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} إلى تصحيح ما قالوه فيك. قوله تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ} شرط ومجازاة، ولم يدغم {جَعَلَ لَكَ} لان الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين. {وَيَجْعَلْ لَكَ} في موضوع جزم عطفا على موضع {جَعَلَ}. ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعا من الأول. وكذلك قرأ أهل الشام. ويروى عن عاصم أيضا: {ويجعل لك} بالرفع، أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا. قال مجاهد: كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرا كائنا ما كان. والقصر في اللغة الحبس، وسمي القصر قصرا لان من فيه مقصور عن أن يوصل إليه.وقيل: العرب تسمى بيوت الطين القصر. وما يتخذ من الصوف والشعر البيت. حكاه القشيري.وروى سفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن خيثمة قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا، وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة، فقال: {يجمع ذلك لي في الآخرة} فأنزل الله عز وجل: {تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً}. ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: يا محمد! رب العزة يقرئك السلام، وهذا سفط- فإذا سفط من نور يتلألأ- يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة، فنظر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جبريل كالمستشير له، فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع، فقال: «يا رضوان لا حاجة لي فيها الفقر أحب إلى وأن أكون عبدا صابرا شكورا». فقال رضوان: أصبت! الله لك. وذكر الحديث..تفسير الآيات (11- 14): {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)}قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} يريد يوم القيامة. {وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} يريد جهنم تتلظى عليهم. {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} أي من مسيرة خمسمائة عام. {سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} قيل: المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم.وقيل: المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم. والأول أصح، لما روى مرفوعا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من كذب على متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا. قيل: يا رسول الله! ولها عينان؟ قال: أما سمعتم الله عز وجل يقول: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه» في رواية«فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حبالسمسم» ذكره رزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة. وخرجه الترمذي من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق بقول إنى وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين».وفي الباب عن أبى سعيد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح.وقال الكلبي: سمعوا لها تغيظا كتغيظ بنى آدم وصوتا كصوت الحمار.وقيل: فيه تقديم وتأخير، سمعوا لها زفيرا وعلموا لها تغيظا.وقال قطرب: التغيظ لا يسمع، ولكن يرى، والمعنى: رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا، كقول الشاعر:أي وحاملا رمحا.وقيل: {سَمِعُوا لَها} أي فيها، أي سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين. كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} و{في واللام} يتقاربان، تقول: أفعل هذا في الله ولله. قوله تعالى: {وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} قال قتادة: ذكر لنا أن عبد الله كان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح، ذكره ابن المبارك في رقائقه. وكذا قال ابن عباس، ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردي عن عبد الله بن عمرو. ومعنى {مُقَرَّنِينَ} مكتفين، قاله أبو صالح.وقيل: مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الاغلال.وقيل: قرنوا مع الشياطين، أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، قاله يحيى بن سلام. وقد مضى هذا في إبراهيم وقال عمرو بن كلثوم: {دعوا هنالك ثبورا} أي هلاكا، قاله الضحاك. ابن عباس: ويلا.وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أول من يقوله إبليس وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول وا ثبوراه». وانتصب على المصدر، أي ثبرنا ثبورا، قاله الزجاج.وقال غيره: هو مفعول به. قوله تعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. وقال: ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم يجمع، وهو كقولك: ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا. ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه. .تفسير الآيات (15- 16): {قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)}قوله تعالى: {قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}. إن قيل: كيف قال: {أَذلِكَ خَيْرٌ} ولا خير في النار، فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب إليه.وقيل: ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال:قيل: إنما قال ذلك لان الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل، فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلتين.وقيل: هو مردود على قوله: {تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ} الآية.وقيل: هو مردود على قوله: {أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها}.وقيل: إنما قال ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار، وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيرا. قوله تعالى: {لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ} أي من النعيم. {خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا} قال الكلبي: وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم فسألوه ذلك الوعد فقالوا: {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ}. وهو معنى قول ابن عباس.وقيل: إن الملائكة تسأل لهم الجنة، دليله قوله تعالى: {رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} الآية. وهذا قول محمد ابن كعب القرظي.وقيل: معنى {وَعْداً مَسْؤُلًا} أي واجبا وإن لم يكن يسأل كالدين، حكى عن العرب: لأعطينك ألفا.وقيل: {وَعْداً مَسْؤُلًا} يعني أنه واجب لك فتسأله.وقال زيد بن أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا. وهذا يرجع إلى القول الأول. .تفسير الآيات (17- 19): {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)}قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوري {يَحْشُرُهُمْ} بالياء. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله في أول الكلام: {كانَ عَلى رَبِّكَ} وفي آخره {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ}. الباقون بالنون على التعظيم. {وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الملائكة والانس والجن والمسيح وعزير، قاله مجاهد وابن جريج. الضحاك وعكرمة: الأصنام. {فَيَقُولُ} قراءة العامة بالياء وهو اختيار أبى عبيد وأبى حاتم. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم. {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} وهذا استفهام توبيخ للكفار. {قالُوا سُبْحانَكَ} أي قال المعبودون من دون الله سبحانك، أي تنزيها لك {ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ}. فإن قيل: فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد؟ قيل له: ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل. وقرأ الحسن وأبو جعفر: {أن نتخذ} بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول. وقد تكلم في هذه القراءة النحويون، فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر:لا يجوز {نتخذ}.وقال أبو عمرو: لو كانت {نتخذ} لحذفت {مِنْ} الثانية فقلت: أن نتخذ من دونك أولياء. كذلك قال أبو عبيدة: لا يجوز {نتخذ} لان الله تعالى ذكر {مِنْ} مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نتخذ من دونك أولياء.وقيل: إن {مِنْ} الثانية صلة، قال النحاس: ومثل أبى عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال، لأنه جاء ببينة. وشرح ما قال أنه يقال: ما اتخذت رجلا وليا، فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه، ثم يقال: ما اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما، وقولك {وليا} تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه {من} لأنه لا فائدة في ذلك. {وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ} أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم. {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك.وفي الذكر قولان: أحدهما: القرآن المنزل على الرسل، تركوا العمل به، قاله ابن زيد.الثاني: الشكر على الإحسان إليهم والأنعام عليهم. إنهم {كانُوا قَوْماً بُوراً} أي هلكى، قاله ابن عباس. مأخوذ من البوار وهو الهلاك.وقال أبو الدرداء رضا الله عنه وقد أشرف على أهل حمص: يا أهل حمص! هلم إلى أخ لكم ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال: ما لكم لا تستحون! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا عبيدا، وأملوا بعيدا، فأصبح جمعهم بورا، وآمالهم غرورا، ومساكنهم قبورا، فقوله: {بُوراً} أي هلكى.وفي خبر آخر: فأصبحت منازلهم بورا، أي خالية لا شيء فيها.وقال الحسن: {بُوراً} لا خير فيهم. مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير.وقال شهر بن حوشب: البوار. الفساد والكساد، مأخوذ من قولهم: بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد، ومنه الحديث: {نعوذ بالله من بوار الأيم}. وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. قال ابن الزبعرى:وقال بعضهم: الواحد بائر والجمع بور. كما يقال: عائذ وعوذ، وهايد وهود.وقيل: {بُوراً} عميا عن الحق. قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ} أي يقول الله تعالى عند تبرى المعبودين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ} أي في قولكم إنهم آلهة. {وَما يَسْتَطِيعُونَ} يعني الآلهة صرف العذاب عنكم ولا نصركم.وقيل: فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون {صَرْفاً} للعذاب {وَلا نَصْراً} من الله.وقال ابن زيد: المعنى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد، وعلى هذا فمعنى {بِما تَقُولُونَ} بما تقولون من الحق.وقال أبو عبيد: المعنى، فيما تقولون فما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه، ولا نصرا لأنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقراءة العامة {بِما تَقُولُونَ} بالتاء على الخطاب. وقد بينا معناه. وحكى الفراء أنه يقرأ {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} مخففا، {بما يقولون}. وكذا قرأ مجاهد والبزي بالياء، ويكون معنى {يقولون} بقولهم. وقرأ أبو حيوة: {بما يقولون} بياء {فَما تَسْتَطِيعُونَ} بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء. ومن قرأ بالياء فالمعنى: فما يستطيع الشركاء. {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} قال ابن عباس: من يشرك منكم ثم مات عليه. {نُذِقْهُ} أي في الآخرة. {عَذاباً كَبِيراً} أي شديدا، كقوله تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} أي شديدا.
|